حضارات ماقبل التاريخ وآثارها في الصحراء الغربية-1

تمثل آثار حضارات ماقبل التاريخ في الصحراء الغربية مفارقة غريبة، فمن ناحية يقف المرء مذهولاً أمام الثراء المدهش والتنوع المثير الذي تمثله آثار الصحراء الغربية، ومن ناحية أخرى تخلو المراجع والدراسات المتخصصة أو تكاد من معلومات أو حقائق حول التاريخ القديم فضلاً عن حضارات ماقبل التاريخ وآثارها في الصحراء الغربية، ولعل السبب في ذلك يكمن في ندرة البعثات الأستكشافية وانقطاع تواصل البحث الأريكولوجي نتيجة للعوامل السياسية والتاريخية التي شهدتها المنطقة خلال فترة الإستعمار الإسباني وحتى نهاية الحرب الناتجة عن الإحتلال المغربي والموريتاني للصحراء الغربية، فخلال الحقبة الأستعمارية التي أمتدت قرابة قرن من الزمن لم تنجز اسبانيا القوة المستعمرة دراسات تفصيلية أو مسح رصدي للمواقع الأثرية الصحراوية بخلاف ماحصل في المستعمرات الفرنسية المجاورة للصحراء الغربية، وربما تكمن أسباب ذلك في الأوضاع السياسية والثقافية المرتبطة بالتحولات الداخلية التي عرفتها اسبانيا ذاتها بعد الحرب الأهلية وسيطرة الديكتاتورية العسكرية على مفاصل الحياة في اسبانيا ومستعمراتها.
وعلى الرغم من كل ذلك فإن دراسات جادة حتى وإن كانت نادرة قد تحققت بالفعل ومثلت بدايات طيبة أمكن ان تنبني عليها لاحقاً الدراسات والاستكشافات النوعية المنجزة أخيراً أو التي لازالت في طور الإنجاز في الأراضي المحررة من الصحراء الغربية والتي مثلت نقلة نوعية في التعاطي مع الآثار الصحروية من حيث رصدها ودراستها والتعريف والإعتراف بها علمياً وعالمياً والأهم من كل ذلك بيان أهميتها ضمن التراث العالمي والتحسيس بالمخاطر التي تتهددها، هذه الدراسات التي ندين لنتائجها بمعرفة الكثير حول آثار الصحراء الغربية خاصة في الجزء المحرر منها.
وعلى الرغم من ندرة المراجع المتاحة فإننا نحاول أولاً تقديم صياغة موجزة للتطور الحضاري للصحراء الغربية من خلال استعراض أبرز الحضارات التي عرفتها المنطقة خلال فترة ما قبل التاريخ ومن ثم نعرض بإيجاز إلى آثار الإنسان القديم في الصحراء الغربية بناءً على حجم المعلومات المتاحة في الفترة الحالية.
ولعل هذه الدراسة تساهم في التعريف بالإرث الحضاري للشعب الصحراوي في جانبه الأثري وتمثل دعوة لقراءة وفهم هذا التراث الغني وتثمينه والمساهمة في الحفاظ عليه، كما أنها تأتي كمحاولة لسد النقص الفاجع في الدراسات الصحراوية حول الآثار وحقبة ما قبل التاريخ في الصحراء الغربية من جهة، ومن جهة أخرى بقاء الدراسات الأجنبية المنجزة في لغاتها الأصلية مما يحرم قراء العربية من الوصول إليها.
وإلى أن تصدر دراسات وطنية متخصصة من قبل باحثين وطنيين يظل هذه المجهود خطوة على درب المساهمة في بناء معرفة أريكولوجية (أثرية) صحراوية ننتظر أن تتبع بدراسات أعمق وأغنى.
وقبل أن نبدأ من المفيد هنا أن نذكر بأن هذه الدراسة رغم كونها تركز على حضارات ماقبل التاريخ فإنها قد تتطرق ولو جزئياً لفترة التاريخ القديم، خاصة في أطواره الأولى لتداخل هذه الأدوار التاريخية دون امكانية الفصل الدقيق بينها دائماً وعدم جدوى مثل هذه المحاولة في الحالة التي نحن بصددها.

آثار الصحراء الغربية: الكنز المهمل

لم تحظ مرحلة ماقبل التاريخ والتاريخ القديم للصحراء الغربية بالعناية الكافية والاهتمام الذي يتناسب مع أهميتها بدليل الندرة المجحفة في عدد الدراسات التي تمت في هذا الميدان و قلة البعثات الاستكشافية التي عنيت بنفض الغبار عن أثار الحضارات القديمة في هذه المنطقة التي لازالت تشكلاً فراغاً مثير للتساؤل في سجل التاريخ البشري القديم، فالباحث في هذا الموضوع لن يصادفه من اعمال أو دراسات معمقة إلا ما ندر وغاية ما سيقف عليه هي اسطر عابرة في اعمال متفرقة تمر بهذا التاريخ الغني مرور الكرام رغم الثراء اللافت للانتباه الذي يميز الصحراء الغربية أريكيولوجياً مما يطرح أسئلة اضافية ولا يقدم الجواب عن الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح على دارس هذا التاريخ.
ومع ذلك ورغم ضآلة المعلومات المحصل عليها وندرة الدراسات الاكاديمية المتخصصة فإن الكثافة النسبية التي تميز آثار فترة ماقبل التاريخ في الصحراء الغربية تقدم معلومات قيمة ليس حول تاريخ الصحراء الغربية فقط بل وحول التاريخ البشري عموماً لأنها تمثل شهادات حية تبرز مراحل هامة من التطور الحضاري للبشرية.
من المهم الإشارة الى أهمية المعلومات التي لاتقدر بثمن التي تقدمها هذه الاثار عن الانسان الذي استوطن هذه الأرض والهجرات البشرية التي عرفتها هذه المنطقة فضلاَ عن تقديمها تصورات واضحة عن النشاط البشري لإنسان ماقبل التاريخ في الصحراء الغربية الذي مارس الصيد والرعي والزراعة والري والتعدين وتظهر مهارته في بناء المساكن وتطويره لوسائل النقل وتأثره وتأثيره بالتجمعات البشرية التي تحيط بمنطقته.
كما تقدم هذه الأثار القديمة و القيمة معلومات ثمينة عن التغيرات المناخية التي عرفتها المنطقة وانعكاساتها على الإنسان وعلى العالم الحيواني والنباتي وتغيرهما من حوله واثر كل ذلك على هجرة المجموعات البشرية المختلفة من الصحراء الغربية و إليها وماصاحب ذلك من تغير في كثافة توزع السكان واتساع المساحة المأهولة بالتجمعات البشرية أو تضاؤلها وصلة كل ذلك بتغير وتنوع الخلفية الثقافية والحضارية للمجتمع البشري في الصحراء الغربية أخذاً وعطاءً.
إن هذه الأثار القيمة تقدم معلومات غاية في الأهمية ليست عن الآثار المادية لإنسان ماقبل التاريخ في الصحراء الغربية- على اهميتها- فحسب، بل وتمنحنا تصوراً ولو موجزاً عن معتقداته ورؤيته لقضايا غيبية وروحانية كعالم ما بعد الموت وخلود الأرواح والبعث وغيرها ومايرتبط بكل ذلك من طقوس الدفن واقامة النصب الجنائزية والمقابر المنفردة أو الجماعية وما تحتويه من متاع وما إلى ذلك.
يضاف إلى كل ذلك أن هذه الآثار مكنت العلماء والباحثين من إعادة صياغة كرونولوجيا (تتابع) الأحداث الكبرى في منطقة الصحراء الغربية ولو بصورة مجملة وهو ما نحاول استعراضه في الأجزاء التالية من هذا المبحث.

» حضارات ما قبل التاريخ في المغرب
» حضارات العصر القديم المتوسط
» ....طرائف من التاريخ‎ .....
» أغرب قصة انتحار في التاريخ
» قوى سبعة مقولات في التاريخ!!